الجيل السوري الخاسر

الجيل السوري الخاسر

Jul 22 2019

هيفاء بيطار *
خلال أسفاري الكثيرة إلى فرنسا (باريس) وهولندا وحرصي على لقاء السوريين أبناء بلدي من مختلف المناطق، لاحظت حقائق هامة عدة تستحق أن نتوقف عندها، ومنها أن الجيل الذي أصبح في متوسط العمر (بين 40 و55 عاماً) يعاني القهر والاكتئاب لأنه يعيش كلاجئ في الدولة التي تأويه. صحيح أن تلك الدول تقدم له ولأولاده مساعدة مالية تكفيهم فقط ثمن طعام وأجرة منزل، لكن هؤلاء لا يتمتعون (لا هم ولا أولادهم) بالحد الأدنى من الرفاهية، إلا أنه وكما يقول المثل: "الأشد مرارة يضطرك إلى تحمل المر". فلو كانوا آمنين ومستقرين في سورية، لما نزحوا. معظم السوريين ممن التقيتهم (من المرحلة العمرية ذاتها) يحتاجون على الأقل إلى سنتين ليتعلموا لغة دولة اللجوء، وسنوات ليعادلوا شهاداتهم الجامعية، بمعنى يكونون قد وصلوا إلى سن التقاعد إذا تمكنوا من معادلة الشهادة. التقيت في فرنسا وهولندا أطباء في متوسط العمر يقضون وقتهم بتكليف إجباري من الدولة في أعمال مجانية إغاثية وخيرية، تمر سنوات عمرهم وهم منخرطون في هكذا أعمال من دون أن يتقاضوا أي أجر. إحدى الطبيبات (من ريف القامشلي) كانت طبيبة مرموقة في حلب، لكنها تعيش منذ خمس سنوات في مدينة هولندية، واحتاجت سنتين لتتعلم اللغة، وهي مسؤولة حالياً عن سيدة سورية شابة من ريف إدلب مصابة بشلل تام في جسدها (أم لأربعة أطفال). إذاً، الطبيبة السورية النازحة من حلب، مسؤولة عن متابعة وضع الشابة السورية (31 عاماً) المشلولة والتي عاشت أربع سنوات في مخيمات اللجوء في لبنان من دون أن تقدم لها أي خدمات طبية، بل كانت تعاني هناك أقسى أنواع المعاناة وهي تعيش مع أسرتها في خيمة بلاستيكية، تتحول في الصيف إلى ما يشبه الفرن وفي الشتاء تعوم بمياه الأمطار، إلى أن تم تسفيرها إلى هولنداعن طريق صحافي أجنبي فقد بدوره يداً وساقاً أثناء تغطيته للحرب، تعاطف مع قضيتها وساعد في انتقالها وأسرتها إلى هولندا لتتلقى عناية طبية أفضل وتكلف الحكومة الهولندية مبالغ طائلة. الشابة المشلولة ذاتها، زارتها الممثلة سفيرة النوايا الحسنة في الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أنجلينا جولي والتي يصفها الإعلام السوري بـ "ممثلة هووليود المندسة!" وأظن أن عبارة "مندسة" هي مصطلح خاص بالإعلام السوري، اكتشفته عندما تابعت تغطية التلفزيون السوري زيارة جولي إلى "مخيم الزعتري" البائس في الأردن، حيث اطلعت على أحوال النازحين وخاصة الأطفال، حينها وصفها الإعلام السوري بأنها "خائنة ومندسة" وصدقاً لا أعرف تماماً المعاني الكثيرة التي تحملها عبارة "مندسة".


تحتاج صديقتي الطبيبة المتخصصة، والتي تعيش بلا عمل في إحدى المدن الهولندية إلى قيادة سيارتها لمدة ساعتين، لتصل إلى المدينة التي تعيش فيها شابة سورية أخرى منكوبة أيضاً بالشلل، الذي أصيبت به بسبب القصف المروع في منطقة إدلب، لتطلع على حالتها وتسجل ما تحتاجه. السيدتان سوريتان من بلادي، وأنا أيضاً من سورية الحبيبة، أضطر إلى أن أسافر إلى باريس كل بضعة أشهر لألتقي أسرتي التي تعيش في العاصمة الفرنسية. صديقتي الطبيبة وزوجها، وهو أيضاً طبيب في الخمسينات من عمره، وغيرهم الكثير من الأطباء السوريين النازحين الذين التقيتهم في فرنسا أو هولندا، والذين يحتاجون كما ذكرت إلى خمس سنوات على الأقل لتعديل شهادتهم الطبية، يقضون وقتهم في أعمال تطوعية مجانية تكلفهم بها الدولة. علماً أن نسبة البطالة مرتفعة جداً في هولندا وكذلك في فرنسا التي لم تنبثق إحتجاجات "السترات الصفراء" فيها من فراغ، بل كانت البطالة من أسبابها الحقيقية. تجدر الإشارة إلى أن الأطباء النازحون لا يتوقعون أن يؤدي تعديل شهاداتهم الذي يتطلب سنوات إلى أن يوفقوا بعمل. لذا عليهم البحث عن أي عمل وفي أي مجال آخر. علماً أنهم سيدفعون ضرائب للدولة المضيفة تتعدى قيمة نصف دخلهم . إلا أن ما يجعل هؤلاء السوريين المروعين من القهر يتحملون مرارة النزوح والغربة، هو أن أولادهم يتلقون أفضل تعليم ورعاية صحية، أي أن ثمة مستقبل لجيل الأبناء. أما الأهل، فلا يملكون سوى تأمل سنوات عمرهم التي تمضي، واضعين كل أملهم في أولادهم، آملين أن تستقر الأوضاع في بلادهم (سورية) ليعودوا إلى بيوتهم وأعمالهم، هذا إذا لم تكن بيوتهم ومراكز عملهم مدمرة.

هناك أيضاً مشكلة النازحين الذين يتجاوز عمرهم الـ 60 عاماً، هؤلاء، تقدم لهم الحكومة الفرنسية مساعدات تتيح لهم ارتياد مطاعم رخيصة لا تتعدى قيمة الوجبة فيها يورو ونصف اليورو، إذ يمكنهم تناول وجبتي الغداء والعشاء في هذه المطاعم البائسة.

كم هو مؤلم أن تجد سوريين كانوا يعيشون بكرامتهم في وطنهم يضطرون لإرتياد هكذا مطاعم والعيش في غرف ضيقة بائسة.

ثمة شريحة أخرى من النازحين السوريين (وربما غير السوريين أيضاً) أريد تسليط الضوء عليها، يرفض أفرادها رفضاً قاطعاً تعلم لغة بلد النزوح، ويمارسون مهناً في السوبرماركت وفي المطاعم، مستخدمين الحد الأدنى من الكلمات الأجنبية. علماً أني التقيت أيضاً شريحة مثقفة أخرى من أطباء ومهندسين، يرفضون تعلم اللغة الأجنبية لبلد اللجوء. وهؤلاء لا تجبرهم الدولة المضيفة على تعلم لغتها خاصة إن كانت أعمارهم فوق الستين.

أي قهر فظيع هو النزوح، وكم هو مؤلم أن يضطر الإنسان إلى ترك وطنه وعمله مصدر رزقه، ليلجأ إلى دولة أخرى ويعيش بالحد الأدنى فيها، لمجرد أنها تؤمن الحماية والإستقرار له ولأولاده، بينما وطنه أذله وأجبره على مغاردة أرض أهله وأجداده.

"نعيش وقلبنا محروق" العبارة ذاتها سمعتها تتردد على ألسنة معظم النازحين السوريين الذين التقيتهم سواء في باريس أو في هولندا. لكل واحد من هؤلاء قصة مأساوية.

ثمة شابة في الثلاثينات من عمرها تدعى (س) طلبت مني أن أروي قصتها. في سورية، كانت تلك الشابة وهي الابنة البكر لعائلة مؤلفة من خمسة أبناء، تعمل مساعدة لخياطة مشهورة، وحين اشتعل الجحيم السوري لم يعد من مصدر رزق لأفراد هذه الأسرة سوى حوالة مالية يتلقونها من عمهم المغترب في السويد منذ أكثر من ربع قرن. كانت (س) تذهب شهرياً إلى مكتب "ويسترن يونيون" لاستلام الحوالة المذكورة، التي تؤمن لها ولأسرتها الحد الأدنى من العيش الكريم، إلى أن استدعتها أجهزة الأمن (أمن الدولة) ووجهت إليها تهمة تلقي الأموال من الخارج! وتم سجنها وتحقيرها بكلمات نابية، كما اتهموها بأنها تعطي هذه الأموال لعائلات الإرهابيين! نتيجة لذلك، أصيبت الشابة بانهيار عصبي، وتمكنت بعد أشهر من الإفراج عنها مدمرة نفسياً، من أن تنزح إلى هولندا، حيث تعيش شبه منعزلة وفي حال من الخوف الدائم لم يستطع بلد اللجوء تخليصها منه لغاية اليوم.

كل نازح سوري التقيته في أوروبا يحمل جرح وطن. ولا أعرف كيف ستتم إعادة إعمار بلد مقسم ومشرذم، نزح ثلث سكانه ولا أمل لهم بالعودة! والحقيقة أن من يعيش في الداخل السوري، يعاني الفقر والذل. ويكفي التفرج على الازدحام على أبواب الأفران، ويكفي أن ترى شاحنة محملة حتى التخمة بالأطراف الإصطناعية للمساكين من عناصر الجيش والمواطنين الذين فقدوا أيديهم وأرجلهم في الحرب السورية القذرة، إذ تحول المستشفى العسكري الضخم في اللاذقية إلى مستشفى خاص فقط بتركيب الأطراف الإصطناعية! يكفي أن ترى الغيمة الرمادية التي تغطي سماء اللاذقية بسبب "محرقة البصة للقمامة" والتي أدت سمومها إلى إرتفاع كبير في نسبة السرطان لدى سكان الساحل السوري. يكفي تأمل جموع الموظفين يقفون تحت لهيب الشمس الحارقة والبرد القارس أمام أجهزة الصراف الآلي (المعطلة بمعظمها) ليقبضوا ما يمكن وصفه بـ "راتب الإحتقار" (نحو 30 ألف ليرة سورية وهو راتب موظف في الدولة). وأخيراً، يكفي إذلال الكتاب الذين يعيشون في الداخل السوري بمنعهم من السفر واستدعائهم بشكل دائم إلى فروع الأمن، وأنا واحدة منهم.

عندما راجعت الأمن العسكري بسبب مقال كتبته أخيراً، وجدتني أنفجر في وجه الضابط الذي يحقق معي وقلت له: "أنا قررت العيش في الداخل لأكون إلى جانب شعبي وشاهدة مخلصة... عليك أن تحقق مع أولئك الذين يستلمون الحواجز الأمنية بدءاً من "معبر العريضة" على الحدود السورية - اللبنانية وحتى اللاذقية، وعدد هذه الحواجز يفوق الـ 14 حاجزاً، وكل عناصرها يرتشون. فأجابني ذاك الضابط قائلاً: "ليكن صدرك واسعاً واعذريهم ففي رقبة كل واحد منهم عائلة!". تصوروا جواب من يتبجحون بمحاربة الفساد . فعلاً القرب من سورية عذاب والبعد عنها عذاب. وفي النتجية: لا أحد يبالي بالمأساة السورية.

* كاتبة سورية
المصدر :الحياة