الاقتراع السوري الواعي الديمقراطية السورية المأمولة

الاقتراع السوري الواعي الديمقراطية السورية المأمولة

Mar 31 2024

منذ بدء الحراك المدني السلمي السوري-/ الثورة السلمية/ في آذار 2011 و الذي تحول لاحقا الى صراع على السلطة مثلما يصفه البعض أو حرب أهلية مثلما تصفه المؤسسات الدولية - ترددت عبارات- من قبل بعض النخب السورية - من قبيل الذهاب الى انتخابات حرة ديمقراطية نزيهة وشفافة ، الاحتكام الى الصندوق الانتخابي الذي سيحدد شكل الدولة السورية المأمولة و يسن دستورها ، الصندوق الانتخابي هو الفيصل في تحديد ما يريده السوريين .. ..الخ تلك العبارات ، عشرات المرات سواء في المؤتمرات أو على الاعلام أو في الورش التدريبية أو الندوات الحوارية أو في الاوراق الصادرة عن المراكز البحثية حتى باتت تلك العبارات من قبيل الديباجة البديهية التي تفتح بها النخب السورية / أوكد على عبارة النخب دون العامة / أي حوار أو دراسة حول سبل الديمقراطية المأمولة في سورية بعد سقوط النظام .
ان النخب -بخطابها المشار اليه- تختزل العملية الانتخابية بالصندوق الانتخابي كآلية ديمقراطية كافية لتحديد المسار الذي يجب على السوريين بكافة مكوناتهم السير فيه لبناء دولتهم الجديدة التي يطمحون اليها غافلة عن العديد من الحقائق والوقائع التي تخالف وتناقض ما ذهبوا اليه من تقزيم وتسخيف للعملية / الانتخابية و الديمقراطية/ كمفهومين سياسيين حقوقيين لهما شروطهما و ظروفهما الشكلية والموضوعية الواجب مراعاتها.
ان التنوع العرقي والطائفي والديني والقومي للشعب السوري و بنيته الاجتماعية الهشة التي تخلخلت خلال السنين والأحداث السابقة التي مرت على سورية مخلفة حالة من الريبة و الشك وانعدام الثقة بين تلك المكونات ...الخ السلبيات التي نتجت عن حالة الفوضى التي عصفت بسورية -لا تزال حتى تاريخ كتابة هذه السطور -والتي لا يعلم نهايتها أحد سواء داخليا على مستوى السوريين أوخارجيا على مستوى المجتمع الدولي برمته بعد تراجع مستوى الاهتمام الدولي بالقضية السورية الى مراحل متدنية بسبب الأزمات الدولية المتتالية كأزمة كورونا و الحرب الأوكرانية و حاليا الحرب الاسرائيلية الحمساوية سيرخي بضلاله -بلا شك - على اية عملية انتقال سياسي يمكن لها أن تحدث في سورية مستقبلا نتيجة لفقدان الثقة -كما أسلفنا – بين المكونات فلا الكردي يثق بالعربي ولا المسيحي يثق بالمسلم ولا الشيعي يثق بالسني وكل منهم يخشى على حقوقه و مكتسباته التي يطمح للوصول اليها في سورية الجديدة وهكذا دواليك مما يعيق أية عملية ديمقراطية مفترضة ويفرغها من محتواها الحقيقي المنشود و يعيبها بعيوب كثيرة أقلها عجز السوريين عن الاتفاق على شكل دولتهم و نظامها السياسي و مبادئ دستورهم وآلية توزيع السلطات وتداولها ...الخ المشاكل التي تظهر عادة في مثل هكذا ظروف -غير طبيعية- وتدفع باتجاه حروب أهلية أخرى أو محاصصات عرقية وطائفية ودينية على غرار العراق ولبنان .
ما تتمسك به تلك النخب و تصر عليه / قدسية الصندوق الانتخابي / قد يكون صحيحا وبديهيا في دول تتمتع بارث ديمقراطي ضارب في القدم و وعي شعبي كبير بالمفاهيم السياسية من قبيل الحرية و المواطنة والعلمانية و تداول السلطة وأشكال الديمقراطيات الناجحة و انواعها و الاغلبيات المطلوبة في العملية السياسية /اغلبية سياسية أم اغلبية عرقية أو دينية / .. الخ كالغرب دوليا وتركيا اقليميا وهذا غير متوافر في العالم العربي بشكل عام وسورية بشكل خاص فجميع الشعوب العربية ترزح تحت ظل انظمة جمهورية دكتاتورية شمولية أو انظمة سياسية ميراثية اضطهدتهم منذ عشرات السنين وحولتهم الى مجرد ارقام لا حول لها ولا قوة ، شعوب تولد وتعيش وتموت في ظل حكم اسرة واحدة او ملك او امير واحد ، شعوب تجهل كل المفاهيم السياسية التي اشرنا اليها مرارا والسوريين من أكثر الشعوب التي عانت من الاضطهاد المشار اليه .
ان تمسك النخب السورية بالمفهوم الضيق للعملية الديمقراطية وحصرها في مفهوم /الصندوق الانتخابي / سينعكس بالسلب على الحالة السورية وسيقف حجر عثرة أمام أية جهود تهدف لبناء الدولة السورية المنشودة البناء الصحيح والسليم الذي يضمن استمراريتها وتقدمها ويهدد بتقويض كل الجهوذ المبذولة مع أية تحديات جديدة قد تظهر أثناء عملية البناء / حكما / لعدة أسباب أهمها :
1- جهل غالبية السوريين بالمفاهيم الحقوقية - المشار اليها سابقا - نتيجة لحالة الاقصاء السياسي التي عانوا منها طيلة العقود السابقة .
2- الاضطهاد الممنهج الذي مارسه البعث عليهم منذ استيلائه على السلطة عام 1963 .
3- السياسات التمييزية التي انتهجها ضد الأقليات السورية المختلفة .
4- الحالة الدينية الصوفية العرفانية التي تسيطر على غالبية المكون العربي السني / في الداخل السوري / والتي ترجع بأصولها الى فترة تأسيس حركة الاخوان المسلمين في سورية و صراعها لاحقا مع النظام في ثمانينات القرن المنصرم و التبعات النفسية والجسدية التي لحقت بهذا المكون نتيجة للاجرام الذي مورس ضده 5- الحالة العشائرية التي لا زالت تسيطر على فئة اجتماعية كبيرة بالقدر الذي سيمنعهم / أي السوريين / من انتاج أي نظام سياسي حديث ذي فرص كبيرة في النجاح والبقاء والاستمرار بالطريقة البسيطة الساذجة التي طرحتها النخب المشار اليها أعلاه .
ان العملية الديمقراطية الانتقالية التي تتمسك بها النخب السورية ذات الولاءات المتعددة / الاسلاموية ، العلمانية ، القومية ، الطائفية ،العشائرية ..الخ -بعضها ولاءات مركبة ،معقدة-/ ستصطدم بعدة معوقات عصية على الحل منها :
1-حيازة مكون واحد/ العربي السني ، المسلم السني / على الأغلبية العددية السورية الى جانب مجموعة أخرى من الأقليات المنتشرة على الخارطة السياسية والجغرافية السورية كالكرد و المسيحيين و الاسماعيليين والدروز والسريان والارمن ...الخ
2- حالة فقدان الثقة / لنقل اهتزازها/ بين هذا المكون و بقية المكونات -المشار اليها- نتيجة لأعمال العنف والاصطفافات ذات الخلفية العرقية و الدينية والطائفية والقومية / التي رافقت الثورة السورية بعيد انطلاقها حتى اليوم و بينه / أي المكون السني / وبين نفسه كونه مكون يحتوي على العديد من التوجهات السياسية و الفكرية المتنوعة فهناك السني المتطرف /الداعشي / الذي نادى بدولة اسلامية وهناك السني المعتدل الذي ينادي بجمهورية اسلامية على غرار الجمهورية الاسلامية الايرانية وهناك السني الذي ينادي بجمهورية علمانية شريطة أن ينص دستورها على أن الفقه الاسلامي هو المصدر الريئسي للتشريع و أن دين رئيس الدولة هو الاسلام كما =هو الوضع حاليا- وهناك من ينادي بدولة مواطنة علمانية وهناك السني الكردي الذي يطالب بحقوقه على أرضه التاريخية ...الخ الاشكالات المعقدة . 3- خشية الاقليات السورية- المشار اليها- على وجودها وحقوقها و نصيبها في العملية السياسية وتوازع المناصب السيادية ...الخ المعقوات العصية على الحل في الظروف الراهنة .
- ستؤدي كل هذه المعوقات -حكما- الى استعصاء أي حل شامل للوضع في سورية ما لم يتم الاتفاق على كل شيء قبل أية عملية للانتقال السياسي وفقا للقرارات الدولية لأن / الصندوق الانتخابي/ والعملية الديمقراطية وفقا للمنهج الذي سعت اليه وروجت له تلك النخب سيؤدي الى استئثار مكون واحد للسلطة في سورية و تفصيل سورية على مقاسه تماما وهو المقاس الذي يعرفه جميع السوريين / المقاس الاسلامي العروبي أو العروبي القومي / لنعود الى ذات الدائرة التي عانى منها جميع السوريين منذ تأسيس دولتهم الحديثة لليوم وهي دائرة / الأكثرية والأقلية , العربي وغير العربي ، مواطن درجة أولى ومواطن درجة ثانية ...الخ الاشكاليات العصية على الحل آخذين بعين الاعتبار ما سبق وان ذكرناه حول حالة فقدان الثقة بين المكونات السورية لذلك فاننا نعترض على هذا النوع من الديمقراطية أي / ديمقراطية الصندوق الانتخابي / لانها غير قابلة للتطبيق -على الأقل في المرحلة الانتقالية المزمعة- و ستؤدي الى نتائج عكسية وستكرس حالة الانقسام المجتمعي التي يعاني منها السوريين أساسا .
- لقد استقر رأي غالبية الفقهاء الدستوريين أنه في حالة وجود منطق طائفي أو عنصري أو توليتاري / كما هو في حالتنا السورية / لا يقوم دور الديمقراطيين على أعطاء الغلبة لميول الأكثرية بل على احترام حقوق المستضعفين لأن ما هو مقدس في النظام الديمقراطي هو القيم وليس الآليات وما يجب احترامه بالمطلق دون أي تنازلات هو كرامة البشر رجالا ونساء وأطفالا بغض النظر عن معتقداتهم أو أديانهم/ مسلم ، مسيحي ، سني شيعي ... الخ أو أعراقهم / عربي ، كردي ، سرياني / أو حجمهم / أقلية ، أكثرية / أو ألوانهم /أبيض ، أسود / لأن الغاية من أية عملية انتخابية ليس استبدال حكومة بيضاء بحكومة سوداء أو استبدال نظام تمييز عنصري بنظام تمييزي آخر بل منح كل المواطنين آيا كانت أصولهم العرقية أو عددهم أو دينهم الحقوق السياسية نفسها وهذا غير موجود في دستور سوريا اليوم الذي يحتوي على العديد من المواد التمييزية -لسنا بصددها هنا- ولن يكون موجود في أي دستور مستقبلي يقوم على أساس الأكثرية العددية لمكون ما .
- لكي نكون منصفين وكي لا يفهم من كلامنا التجني المفترض على مكون ما نؤكد على حقيقة مفادها أن حالة التمييز -المشار اليها- موجودة في غالبية الدول بما فيها المتقدمة منها بمعنى أننا لن نعثر على بلد لا يكترث فيه الناخبون للانتماء الديني أوالعرقي أو الاثني للمرشحين لكن ما يميز الدول المتقدمة عن الدول المتخلفة هو ما يطلق عليه مصطلح // الاقتراع الواعي// وهو ما نفتقده كسوريين ونسعى اليه على خلاف تلك النخب السورية المشار اليها مرارا ويقصد به أن يحل الاقتراع الواعي الذي يشكل التعبير الحر الوحيد محل الاقتراع الآلي / الصندوق الانتخابي / الاقتراع الاثني ، الاقتراع المتطرف ، الاقتراع الانتمائي .
من هنا يتوجب علينا كسوريين وطنيين من كافة المشارب -ونحن نسعى الى بناء سورية الجديدة التي تتسع للجميع- أن نكون حذرين ويقظين عند الاستعداد لأية عملية ديمقراطية قادمة بأن نرى امكانية اجراء الاقتراع العام بحرية دون الافضاء الى الكثير من الاجحاف بحق أي مكون من مكونات الشعب السوري مهما صغر أو كبر ودون استغلال مكون ما لميزة يتمتع بها للحصول على مكاسب تميزه عن باقي المكونات فاذا كان الأمر ممكنا فلا بأس أما اذا لم يكن كذلك فيجب اللجوء الى الضوابط ومنها على سبيل المثال مايطلق عليه بمصطلح / المبادئ فوق الدستورية , المبادئ الدستورية المحصنة / غير القابلة للالغاء أو التعديل بأية استفتاءات مستقبلية ولا ضير في ذلك لأن جميع الأنظمة الديمقراطية الكبرى لجأت – في مرحلة ما – الى مثل هذه الضوابط بين الحين والآخر ففي المملكة المتحدة حيث يسود اقتراع الأكثرية لجأت الى التفكير في أشكال اقتراع مختلفة لا تأخذ في الحسبان قانون العدد الصارم لتسوية مشكلة الأقلية الكاثوليكية في ايرلندا الشمالية كذلك الأمر بالنسبة لفرنسا التي اعتمدت اقتراعا اقليميا مختلف عن نظامها المعتمد من أجل حل مشكلة سكان كورسيكا كذلك الأمر فعلته كلا من المانيا والولايات المتحدة الأمريكية و تركيا وجنوب أفريقيا وأسبانيا والبرتغال فيما يتعلق بشكل نظام الحكم وعلمانية الدولة ...الخ ومن الدول المذكورة من قام بمراعاة ماسبق ذكره و سن دساتيرها بعد خروجها من حروب خارجية أو أهلية كألمانيا وجنوب افريقيا ولا يوجد ما يمنع السوريين كذلك من التفكير بهذه الضوابط قبل اجراء أي عملية انتخابية أو قبل سن دستور جديد فلا شيء يمنعنا من التفكير بأن شخصا كرديا أو مسيحيا أو درزيا .. الخ قد ينتخب لرئاسة الجمهورية أو أن تكون اللامركزية بجميع مفاهيمها شكلا للدولة المأمولة أو تبني العلمانية كاملة غير منقوصة ...الخ غير أن هذا الأمر لن يكون وارد الا بعد عملية فعالة من التجانس الداخلي والاندماج والنضج حين يحكم على مرشح ما من قبل أبناء وطنه على أساس صفاته الانسانية وآرائه بدلا من انتماءاته ومميزاته الموروثة.
- اننا كسوريين – من وجهة نظري - لم نبلغ هذه المرحلة من التجانس والاندماج والنضج بعد بسبب كل ماذكرته في سياق هذا المقال والطريق اليها بعيد وليس في المدى المنظور كما هو حال العديد من الشعوب الأخرى مما يحدونا للتريث و التروي و الحوار المكثف قبل الذهاب الى اي عملية انتخابية بالصورة التي تطرحها بعض النخب السورية / الصندوق الانتخابي / أو الاتفاق على مبادئ فوق دستوري محصنة غير قابلة للمساس بها تحت أي ظرف أو استفتاء تضمن حقوق كافة مكونات الشعب السوري وتمنع مكون من التغول على مكون آخر لأي سبب من الأسباب لان الديمقراطية ومبادئها هي التي تعطي العملية الانتخابية أبعادها الصحيحة، وهي التي تضع حداً لصناديق الاقتراع وطغيان الأغلبية وهي كذلك وسيلة وآداة منفعية لحماية السلام الداخلي والحرية الفردية وهي في حد ذاتها غير معصومة أو مؤكدة على الاطلاق فالديمقراطية تحت حكم أغلبية متجانسة ومذهبية للغاية قد تكون حكومة مستبدة مثل أسوأ دكتاتورية كما أنه ليس هناك ما يبرر الاعتقاد بأنه طالما السلطة منحت باجراء ديمقراطي فانها لن تكون متعسفة والعكس الذي يوحي به في هذا القول زائف تماما فليس مصدر السلطة / الشعب / بل تحديدها هو الذي يمنعها من أن تصبح متعسفة .
ختاما أؤكد على الفهم النخبوي الخاطئ لمفهوم الديمقراطية الحقيقي وعلى فشل أية عملية ديمقراطية تتبنى الصيغة التي طرحتها بعض النخب السورية عن جهل أو عن حق يراد به باطل وعلى أن قصر العملية الديمقراطية على عدد الأصوات هو /الصندوق الانتخابي / هو تقزيم وتسخيف لها ولن تؤدي الا الى المزيد من الاختلاف و الاقتتال السوري- لتعذر أو استحالة توافقهم -و الفشل في الوصول لنموذج دولة المواطنة الحديثة الذي يطمح له السوريين و وستصل في أحسن أحوالها لنسخة مكررة عن النموذج العراقي و اللبناني وهو ما يجب أن نقاومه - كسوريين وطنيين- يسعون الى بناء دولة وطنية علمانية حديثة على غرار الدول المحترمة بكل شراسة .
فرنسا في 27/03/2024
*المحامي: محمد علي ابراهيم باشا