الجمهورية الكرديّة

الجمهورية الكرديّة

Jun 24 2020

مها حسن
في حديث مع صديق روائي عربي لا يمت بصلة إلى السجالات المتعلقة بالتخوّف العربي من المطالب الكردية، وفي سياق جاد، قال لي: لا أفهم أين تكمن المشكلة في تشكيل كيان كردي مستقلّ في سوريا، بل أين المشكلة في حال تأسيس فيدرالية في سوريا، حتى لو أنّ سوريا صارت الجمهورية الكردية، أين المشكلة، في حال عاش في ظلّها الجميع، من عرب وأكراد وباقي المكونات بسلام وأمان، ماذا يهمّ الناس، التسميات الشكلية أو العيش الحقيقي اليومي؟.

بطريقة ممازحة، رحتُ أتخيّل مع الصديق مستقبل الجمهورية الكردية، تخيّل يا أخي أن تتحوّل سوريا إلى جمهورية كردية، تُفرض فيها اللغة الكردية على الجميع، ويُعاقب أي مواطن عربي يتحدّث بالعربية، ويُمنع من الدراسة والتعلّم باللغة العربية، ويُصفع أي تلميذ عربي غضّ على مقاعد المدرسة، إن تحدث بالعربية.
أوقفني صديقي العربي قبل أن أكمل حديثي التخييلي الفانتازي الذي لن يحدث أبداً، ولا يمكن حدوثه، لسببين رئيسيين: أنّ مشروع “الجمهورية الكردية” أمرٌ ستسعى جميع الأطراف في العالم للوقوف ضده، وأنّه لا يمكن للكرد، الذين عانوا من الشوفينية والتمييز ضدهم، أن يمارسوا الأمر نفسه، ولا حتى ضمن حدود المخيال الأدبي.

أوقفني صديقي عن الكلام، مازحاً: إذن من الأسلم لنا أن ندافع عن الفيدرالية في سوريا، والقبول بدولتين عربية وكردية معاً، حتى لا نتعرّض للاضطهاد من قبل الكرد، فيما لو تأسست الجمهورية الكردية.

صديقي الروائي السوري العربي، المبتعد عن السجالات الفارغة، والمنعزل عن المشهد المزدحم بالحقد والكراهية، قال لي دون دعابة هذه المرة: صدقيني لو تأسس كيان كردي مستقل في سوريا، وعاش في ظلّه العديد من الطوائف والإثنيات والقوميات، سأذهب شخصياً لأعيش في ذلك المكان. لا يهمني من يحكم سوريا، أن يكون كردياً أو عربياً، أو من أي طرف آخر، يهمني نظام الحكم الذي يحقق الأمان والديمقراطية والعدالة لجميع المواطنين.
كروائيّة، تخيّلت أن أبني روايتي القادمة على هذه الفكرة: “جمهورية كردية يتحدّث فيها المواطنون بعدّة لغات”. محاولة إيصال فكرة الأذى النفسي وحجم الضرر الذي يحمله الكردي مهما كبر وابتعد عن المكان.

تجمعني علاقات عميقة وقوية مع كثير من النساء والرجال الكرد القاطنين في الشتات، ولكلّ منهم حكاية تستحق بمفردها أن تكون مشروع كتاب مستقل، ليقدم للعالم عامة، وللسوريين خاصة، حجم الشعور بالمهانة والتمييز والنبذ الذي يعانيه كل منّا. لهذا ربما أحاول وضع القارئ المحايد، الشريك العربي تحديداً، في عمق المعاناة الكردية، ليدرك خطورة أن يُباد أحدنا مادياً ومعنوياً، لأنّه من أصول مختلفة.
في سوريا، وفي باقي بلاد المنطقة، اعتادت شعوبنا اغتيال الآخر الذي يفشل في التماهي مع نظرتنا وتقييمنا، الآخر الرافض للدخول ضمن قوالبنا التي نعتقد أنّها الأصحّ والأهمّ والجديرة بالتعميم والتطبيق.

شعوبنا هذه، متماهية مع شخصيّة الأخ الأكبر “بيج براذر” ،النموذج الشهير في رواية جورج أوريل، والذي تتحدّث روايته عن سلطة هذا الأخ كحاكم مستبد، لكن أوريل لم يتخيّل أنّه في بلادنا نحن، في الشرق الأوسط والبلاد العربية التي وُلدنا فيها، فإن كل منا، يحمل بذور الأخ الأكبر في داخله، ليحاول القضاء على أي آخر لا يشبهه ولا يمتثل لصورته المطلوبة.

اليوم، انتقل الكثير من السوريين، من عرب وأكراد، إلى العيش في بلاد الغرب، ويطّلع هؤلاء يومياً على تجارب وحكايات تنمّ عن توجه هذه الأنظمة إلى مبادئ العدالة والحق والتخلّص من إرث السلطة الفردية والحكم على الآخرين من خلال التشابه معنا أو الاختلاف.

في تفاصيل صغيرة، يصعب حصرها، يجد الكثير من السوريين العرب المسلمين مثلاً، أنّ ملفات مهمة وفاصلة في حياتهم في أوروبا، موقوفة على توقيع شخص مختلف تماماً عن هذا السوري، قد يكون من ديانة أخرى، من لون آخر، من انتماء سياسي آخر، من توجه جنسي آخر حتى.. لكن هذا الشخص، يدرس الملف الذي أمامه، بكثير من الحياد، وبإيمان مسبق بحقّ هذا “الأجنبي المختلف” بالحصول على حقوقه.. فهل يمكن فعلاً، للسوري، أن يضع نفسه في موقع موازٍ، ليمنح أي إنسان على ظهر الأرض، حقّه، ضمن فكرة الإيمان الأخلاقي بالحق، متخلياً عن سلطة الحرمان من الحق، التي تربّى وكبر عليها؟.

الكثير من السوريين الذين يعيشون في أوربا اليوم، من عرب وأكراد وغيرهم، سيحصلون على جنسيات هذه البلاد، ومنهم من حصل عليها، وصار يحق له العمل في السياسة، والترشح لمنصب الرئيس في هذا البلد الجديد، سيرة رؤساء الغرب تتضمن العديد من الشخصيات الذين وصلوا إلى الحكم، وهم من أصول مهاجرة، إذن، يمكننا التخيل بسهولة، أن يصبح رئيس أي بلد أوربي أو أمريكي، بعد عشرين عاماً مثلاً، أو أقل، من أصول سورية.

إذا كان هذا الاحتمال وارداً في الغرب، فهل يمكننا تخيّل أن والد الرئيس الأوربي القادم، السوري المهاجر أو اللاجئ، يعارض اليوم بشدة، فكرة حصول أي كردي في سوريا، على حقوقه القومية، بل لا يزال يناقش تفاصيل مملة وساذجة، حول تاريخ الكرد، للتشكيك في حقوقهم البديهية؟.

عزيزي المواطن العربي السوري، الذي تعيش في أوربا خاصة، وتتمتع بحقوق كبيرة، وسوف تتسع رقعة حقوقك هذه، لتختار رئيسك في بلدك الجديد، من فضلك، قليل من النزاهة وأنت تنظر اليوم إلى مطالب الكرد في سوريا. هل يمكنك أن تتخيل للحظة، دون خوف أو غضب أن القضية الكردية في سوريا، ليست كابوساً، وأنّها ليست ضد وجودك، ولن تحرمك من حقوقك، بل إنّ اعترافك بها، يعيدك كائناً متوازناً، ويحرّرك من أنانيتك ونظرتك الضيقة، على أنك وحدك صاحب الحقوق وموزّعها وفقاً لتاريخك السلطوي، بوصفك الأخ الأكبر.
المصدر :ليفانت