ملف الدستور ..المبادئ فوق الدستورية ترف أم حاجة؟ (14)

ملف الدستور ..المبادئ فوق الدستورية ترف أم حاجة؟ (14)

Nov 11 2019

منى أسعد
بات من المعروف ما خلفته الحرب في سوريا من دمار وخراب وقتل وانقسامات بين مكونات المجتمع السوري، إلا أن بعض الأطراف الدولية الفاعلة في الملف السوري نجحت بالقفز فوق موضوعة الحل السياسي إلى سلة اللجنة الدستورية، التي بدأت في نهاية تشرين أول/ أكتوبر الماضي اجتماعاتها في جنيف، لصياغة دستور جديد للبلاد، كأحد السبل للخروج من الأزمة السورية.

لكن كيف يمكن للّجنة الدستورية صياغة دستور ديمقراطي، يحظى بإجماع مختلف قوى وفئات المجتمع السوري المتنافرة، ويصون حقوقها ويحمي حرياتها، دون أن تتمكن أي سلطة قادمة، حتى لو تمتعت بأغلبية انتخابية، ومهما كانت مرجعيتها الأيديولوجية، من تغيير هذا الدستور أو تعطيله أو تعديله وفق مصالحها الضيقة الحزبية أو المادية أو الأيديولوجية؟

باعتقادي هذا الأمر يقودنا إلى ضرورة تحصين الدستور وفق "المبادئ فوق الدستورية"، والنص عليها قبل صياغة الدستور، بحيث تشكّل القواعد والأسس، التي تُبنى عليها نصوص الدستور السوري القادم.

بداية لا بد لنا من تعريف الدستور"Constitution"، بأنه القانون الأعلى الذي يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة، بسيطة أم مركبة، رئاسية أم برلمانية، ونظام الحكم ملكي أم جمهوري، كما ينظّم الدستور السلطات الثلاث العامة في الدولة، من حيث التكوين والاختصاص والعلاقات فيما بينها، ويرسم حدود كل سلطة، وينظّم كذلك الواجبات والحقوق الأساسية للأفراد والجماعات، ويضع الضمانات لهذه الحقوق والواجبات تجاه السلطة.

لذلك تُعتبر النصوص الدستورية أسمى وأعلى مرتبة من القوانين، مما يوجب على المشرِّع ضرورة التقيد بها أثناء صياغته النصوص القانونية، لأن أية مخالفة للنص الدستوري تفقد القانون الوليد شرعيته وتصمه بالبطلان.

ولعلّ أبرز مقتضيات الوضع السوري والتي تستوجب مبادئ فوق دستورية تتعلق ب:

1- شكل الدولة ونظام الحكم فيها.

2- مبدأ فصل السلطات.

3- مبدأ فصل الدين عن الدولة.

4- حماية حقوق وحريات مكونات المجتمع في الدولة.

أولاً في شكل الدولة ونظام الحكم فيها:

تتمايز أشكال الدولة بين الدولة البسيطة/ المركزية والدولة المركبة/ الاتحادية، بحيث تتكون الأخيرة من اتحاد أكثر من دولة أو إقليم أو ولاية معاً، سواء كان اتحادا فيدراليا أم كونفدراليا أم غير ذلك من الأشكال، على أن تتمتع كل من تلك المكونات باستقلال نسبي وتخضع معاً لسلطة سياسية مشتركة، كما هو الحال في جمهورية ألمانيا الاتحادية أو الولايات المتحدة الأمريكية وغيرهما كثر.

أعتقد أننا في الحالة السورية، سواء ذهبنا بأي من خيارات الفيدرالية أو المركزية، لن تستطيع تشكّيل الضمانة المطلوبة لاستمرارية النظام الديمقراطي، ولن تكون المظلة الحامية لحريات وحقوق كافة المكونات المجتمعية، بدون مبادئ فوق دستورية، تحمي النصوص الدستورية من طغيان السلطة السياسية.

وفيما يخص نظام الحكم:

من المعروف أن ثمة أنماط مختلفة لنظام الحكم السياسي، وجميعها تقوم على مبدأ فصل السلطات، لكن بدرجات متفاوتة.

فبالرغم من أن النظام الرئاسي يتميز بفضاء خاص لكل من سلطات الدولة الثلاث، لكن يؤخذ عليه أنه يفتقد إلى آليات حماية جدّية تمنع تغوّل السلطة التنفيذية على السلطات الأخرى، لإنشاء دورة من الاستبداد. ليس أدل على ذلك مما خبرته سوريا خلال نصف قرن وأكثر، من انعدام الحياة الدستورية وسيطرة القمع والاستبداد والانتهاكات المستمرة لحقوق وحريات الشعب، ليس فقط بسبب فرض قانون الطوارئ، الذي أبطل مفاعيل مبدأ فصل السلطات وسيادة القانون، وإنما أيضاً، بسبب ضعف آليات الحماية بحيث استطاع رئيس السلطة التنفيذية/ رئيس الجمهورية، الهيمنة على السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وبالتالي إحكام قبضته على كل أوجه الحياة في الدولة والمجتمع دون أي رادع.

في حين يُعد النظام الجمهوري البرلماني أو ما يُعرف ب"النصف رئاسي"، الأقرب إلى الديمقراطية، لما يتضمنه من آليات حماية، إذ يتقاسم السلطة التنفيذية في هذا النظام، كل من رئيس الدولة بصلاحيات متفاوتة من دولة إلى أخرى، ورئيس الحكومة بصفته رئيس السلطة التنفيذية، ما يحوّل دون احتكار السلطة، وممارسة الاستبداد في الدولة من قبل أي منهما، ويكون رئيس الحكومة مسؤولا مسؤولية مباشرة هو وحكومته أمام البرلمان، الذي يحق له مراقبة أدائهم والاستفسار يوميا عن حسن سير أعمال الحكومة، وله الحق بسحب الثقة سواء من رئيس الحكومة أم من أحد وزرائها، وبالتالي دفع الحكومة إلى الاستقالة، أو استبدال الوزير.

بالمقابل يحق للحكومة تقديم مقترحات قوانين والمشاركة في مناقشتها، ولها أيضاً دعوة البرلمان للانعقاد لمناقشة واتخاذ القرار بأي طارئ، كذلك يحق لها الطلب إلى رئيس الدولة حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة، في حال قرر البرلمان سحب الثقة من الحكومة لأسباب تراها الأخيرة واهية.

وعليه يكون هذا النظام بما يشتمل عليه من ديمقراطية، وبما ينص عليه من آليات حماية هو الأجدر بالتطبيق على الواقع السوري الحالي، مع تحصينه ب "المبادئ فوق الدستورية".

ثانياً- مبدأ فصل السلطات:

يُعتبر مبدأ فصل السلطات ركيزة أساسية في النظم الديمقراطية، لما فيه من تكرّيس لسيادة القانون، والحيلولة دون استحواذ شخص واحد على سلطات الدولة الثلاث، إذ تتضمن السلطة التنفيذية "رئاسة الدولة والحكومة والجهاز الإداري للدولة"، وتتولى مهمة إدارة شؤون البلاد الداخلية والخارجية وتنفيذ التشريعات والقوانين، وعليها الحفاظ على أمن البلد الداخلي والخارجي إضافة إلى الصحة والتعليم وباقي الخدمات العامة.

فيما تختص السلطة التشريعية "البرلمان" بمهمات وضع التشريعات وسن القوانين وتتولى التصديق على المعاهدات الدولية، والموافقة على قرار الحرب، كما تتولى مراقبة أداء المسؤولين في الحكومة وتشرف على موارد الدولة ونفقاتها، والموافقة على ميزانية الدولة وتحدد النظام الضريبي فيها.

أما السلطة القضائية فتتولى مهمة تفسير القوانين وتطبيقها، والفصل في النزاعات بين الأفراد وإحقاق العدالة، وتشرف على عمل المحاكم عبر مجلس القضاء الأعلى، كما تشرف على الانتخابات وفرز الأصوات، بالإضافة إلى مهمة الرقابة على دستورية القوانين عبر المحكمة الدستورية العليا.

ويبرز أخيرا الدور المهم للسلطة الرابعة في الدولة "سلطة الإعلام"، لما لها من تأثير على الرأي العام للأفراد والمجتمع، فنرى قمع الصحافة باستثناء الموجهة منها، وملاحقة الصحافيين واعتقالهم والتنكيل بهم وإغلاق دور النشر ومصادرة محتوياتها... الخ، في النظم الاستبدادية التي ترى في حرية الإعلام رهاباً ينال من هيبتها ويفضح مصالحها واستبدادها، الأمر الذي يقضي بضرورة تحصين سلطة الإعلام بالتأكيد على حرية الرأي والتعبير، ضمن "المبادئ فوق الدستورية"، لمنع طغيان الفئة الحاكمة.

ثالثاً- إقرار مبدأ العلمانية وفصل الدين عن الدولة:

يعتقد البعض جازماً أن العلمانية تدعو إلى الإلحاد وتحارب الدين والعبادات، لكن هذا غير صحيح، فالعلمانية نظام فلسفي واجتماعي وسياسي، يقوم على مبدأ فصل الدين عن الدولة، دون أن يحارب الدين أو الإيمان، انطلاقاً من أن الدين يرتبط بالأشخاص الطبيعيين، ويكون مجاله الضمير الشخصي للأفراد، في حين إن الدولة في الفكر السياسي المعاصر، هي شخص اعتباري لا دين له، بل أكثر من ذلك، إذ يجب على الدولة الحديثة احترام معتقدات السكان أياً كانت ومهما تنوعت، وصون حقهم في الاعتقاد وفي ممارسة الطقوس والعبادات، بما في ذلك حقوق رافضي التديّن أيضاً، فلا يحق لها مساءلتهم عن معتقداتهم ودياناتهم، وإنما مساءلتهم عن أفعالهم وتصرفاتهم في حال شكّلت خرقاً للقانون.

في ضوء الراهن السوري الذي يهدد هويتنا الوطنية الممزقة بين استبدادين عسكري وديني، وبين انتماءات ماقبل الدولة الحديثة، أصبحنا بحاجة ماسة إلى قوة كبيرة لاستعادة لحمة السوريين وهويتهم الوطنية، عبر نظام ديمقراطي يؤصل لمبدأ علمانية الدولة، باعتباره ضرورة تاريخية لأي مشروع وطني وديمقراطي في سوريا المستقبل، مشروع دولة لا دينية، يرتقي إلى أن يكون عقداً اجتماعياً بين السلطة السياسية ومجموع مكونات المجتمع بغض النظر عن معتقداتهم ومذاهبهم.

وهذا يعني بالتحديد إعمال مبدأ فصل مؤسسة الدين عن مؤسسة الدولة، وليس إلغاء أو محاربة الدين، وهو الأمر ذاته الذي سمح لاحقا لأوروبا وعموم الغرب، بتطور أنظمة الحكم والإدارة والاقتصاد بعيدا عن هيمنة النص الديني ومصالح الكنيسة.

رابعاً: في حقوق وحريات مكونات المجتمع السوري:

لا شك أن تبني الأسرة الدولية للمواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان، جاء تتويجاً لنضال البشرية خلال مئات السنين، وتكريماً لملايين الضحايا الذين قدموا أرواحهم ثمناً لهذه المبادئ، منذ أعلنت الثورة الفرنسية ذلك صراحة في إعلان حقوق الإنسان الصادر في 26 آب/ أغسطس 1789، إذ نصت المادة 16 منه على أن "أي مجتمع لا تكون فيه الحقوق مكفولة، أو فصل السلطات محدداً، هو مجتمع ليس له دستور على الإطلاق.

وتتالت المواثيق والعهود الدولية وصولاً إلى " الإعلان العلمي لحقوق الإنسان" الصادر في 10 كانون الأول/ ديسمبر 1948، وأعقبه العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والملاحق والبروتوكولات المرفقة بهما، اللذين دخل حيز التنفيذ عام 1976، تلاهم العشرات من المواثيق والاتفاقيات والإعلانات الدولية.

الأمر الذي دفع بغالبية الدول الكبرى في العالم، لتبني هذه المواثيق باعتبارها "مبادئ فوق دستورية"، لتكون أساساً لدساتيرها، تُحصّنها من التغيير أو التعديل، وتضفي عليها صفة الثبات وتشكّل ضمانة للحريات الشخصية والعامة، وللحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والثقافية للمواطنين جميعاُ، على قدم المساواة التامة في القانون وأمام القانون، دون أي تمييز على أساس اللون أو الجنس أو العرق أو الدين أو المعتقد.

وفي خطوة لاحقة عمدت حكومات تلك الدول إلى تفعيل مضامين هذه الحقوق، فسعت مثلاً إلى رفع كل العوائق التي تحول دون جعل مبدأ المساواة التامة بين الجنسين أمراً واقعاً، الأمر الذي مكّنها من خلق واقع مستقر ومتميز لجميع مكونات مجتمعاتها، ومكّن في الوقت ذاته، شعوب تلك الدول من التمتع برفاهية الكرامة الإنسانية والحرية والمساواة الدستورية.

في حين وفّرت نصوص دساتيرنا السورية السابقة، أساساً متيناً للتميز بين مكونات المجتمع السوري عموماً، عندما قضت المادة الثالثة الدستور بأن "دين رئيس الجمهورية الإسلام"، أربع كلمات كانت كفيلة لحرمان طيف واسع من الشعب السوري من ممارسة حقه الدستوري هذا. كما أكدت الفقرة الثانية من النص ذاته "أن الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع"، فكرّست بذلك دونية المرأة وتبعيتها للرجل، والذي نجد ترجمته في الكثير من قوانين الأحوال الشخصية وقانون الجزاء وصولاً لقانون الجنسية، حيث عانت المرأة وما تزال، جراء ذلك كثيرا من التهميش والاضطهاد والقمع والتمييز، الأمر الذي حال ولعقود عدة، دون تمكين المرأة السورية، ومشاركتها الحقيقية في تطوير أوضاعها، وتوظيف طاقاتها المقموعة لتنمية المجتمع، وفي ذلك هدر وامتهان لطاقات أكثر من نصف المجتمع السوري.

من هنا تنبثق الحاجة، ليس إلى نصوص دستورية تلغي التمييز فحسب، بل لا بد من حماية هذه النصوص من التعديل أو الإلغاء، عبر تحصينها ب "مبادئ فوق دستورية".

يبقى أن نشير إلى سؤال يتبادر إلى ذهن كثيرين، ألا وهو: طالما أن الدستور الوطني هو الناظم لسلطات الدولة الثلاث، والضامن لحقوق وحريات الأفراد، فمن الطبيعي أن يتحلى بالمرونة لمواجهة متطلبات الواقع، بحيث يمكن للمشرّع الدستوري إدراج نصوص جديدة، أو تعديل ما تجاوزه الزمن من نصوص لصالح نصوص أكثر ملاءمة لاحتياجات وظروف المجتمع، لكن "المبادئ فوق الدستورية"، المحصنة من التعديل أو الإلغاء، قد تحوّل دون إجراء هكذا تعديلات دستورية بالرغم من ضرورتها

ما من شك أن "المبادئ فوق الدستورية"، لن تحوّل دون تعديل بعض النصوص الدستورية عند الضرورة، لكنها تحوّل دون المساس بالمبادئ التي قام عليها الدستور، حتى ولو تمت إجازة التعديلات بشكل صحيح من الناحية الشكلية.

ويبقى للسلطة القضائية ممثلة بالمحكمة الدستورية العليا، الكلمة الفصل فيما إذا كانت هذه التعديلات تمس أساس الدستور وجوهره أم لا.

هذا يعيدنا إلى دور وأهمية المحكمة الدستورية السورية، لنكتشف أنها لم تكن أكثر من ديكور تجميلي لدستور نظام استبدادي، ووسيلة لحماية السلطة التنفيذية من أية مساءلة جزائية أو مدنية، والتي تعتبر وفق الدستور من صلب مهمات المحكمة الدستورية.

فبموجب أحكام الدستور 1973، الذي صيغ وفق أهواء رئيس الجمهورية، بات للأخير الحق في الهيمنة على السلطات الثلاث، وبالتالي الحق في تعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا وتمديد مدة ولايتهم، والبت بطلبات استقالتهم، رغم ما يشكله ذلك من مخالفة صريحة لما نص عليه ذات الدستور بان المحكمة الدستورية هي "هيئة قضائية مستقلة"، ورغم ما يشكله ذلك أيضاً، من مخالفة صارخة لمبدأ فصل السلطات.

هذا التغوّل من السلطة التنفيذية على المحكمة الدستورية العليا، أدى إلى شللها التام، بعدما تحول أعضاؤها من قضاة مستقلين بقراراتهم، إلى مجرد موظفين حريصين على امتيازاتهم عبر كسب رضا الجهة التي سمتهم.

وبالعودة إلى بدء نقول، إن وضع دستور جديد أمر مهم جداً، بالنسبة إلى الشعب السوري، دستور يُعتمد فيه النظام الديمقراطي "النصف رئاسي" نمطاً لممارسة الحكم، والعلمانية مبدءاً، وشرعة حقوق الإنسان مرجعية، لكن الأمر الأكثر أهمية هو حماية هذه النصوص ب "مبادئ فوق دستورية"، تعتبر خيارا ضروريا، أكثر منها ترفا دستوريا، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لا بد من إعادة التأكيد على استقلالية المحكمة الدستورية العليا استقلالية تامة، والنص على إلغاء كل المحاكم الاستثنائية وكل ما نتج عنها من أحكام جائرة.