ست نقاط أساسية في فكرة الدستور السورية*

ست نقاط أساسية في فكرة الدستور السورية*

Oct 05 2019

ماجد كيالي
قبل البحث في فكرة الدستور، قيمه ومعاييره ومضامينه، يفترض بنا الإجابة عن تساؤل أي نظام سياسي نريد، هل نريد نظاماً ملكيا أم جمهوريا؟ استبداديا أم ديمقراطيا؟ برلمانيا أم رئاسيا؟ فدراليا أم مركزيا؟ طائفيا أو قوميا أم دولة مواطنين؟

الآن، وعلى فرضية أن الشعب السوري، بأغلبيته على الأقل، عانى الاستبداد، والدكتاتورية، والدولة المركزية والحكم الوراثي، والانقسامات الطائفية والمذهبية، فإن الإجابة عن ذلك السؤال قد تبدو معروفة أو سهلة، على الرغم من كل الإشكالات المتضمنة فيها، ذاتيا وموضوعيا.

على ذلك فإن هذه المقالة ستركز على القضايا الأهم (من وجهة نظر الكاتب) التي يفترض أن يلاحظها الدستور السوري المفترض، أو المعنيون بصوغ دستور لسوريا، اليوم أو غدا، وهي:

أولاً، استعادة قيم النظام الجمهوري، لأن فلسفة ذلك النظام، وهو من منتجات الحداثة، على صعيد النظم السياسية، تقوم على أسس عدّة؛ أهمها:

1) إنهاء الحكم المطلق.

2) سيادة الشعب وعدّه مصدر السلطات.

3) الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والقضائية والتنفيذية، واستقلال كل واحدة منها في مجالها.

4) شرعنة المكانة الحقوقية والسياسية للمواطن الفرد، القائمة على مجتمع من الأفراد المواطنين والأحرار والمستقلين عن أي انتماءات جمعية أخرى، في إقليم ـ دولة يشكلون فيها الأمة.

وكان واضعو نظريات "العقد الاجتماعي"، وهم من آباء فكرة الليبرالية، من مثل لوك وروسو وكانط (القرنين السابع عشر والثامن عشر)، أسّسوا لفكرة الجمهورية في مواجهة الحكم المطلق، وعلى أساس أن السيادة في النظام الجمهوري تعود إلى الشعب الذي يؤلف الإرادة العامة، ويتألف من مجموعة أفراده، الأحرار والمتساوين، وعلى أساس حكم مدني، والفصل بين السلطات. بل إن لوك وروسو توافقا على أن شرعية أي سلطة مشروطة بالتزام الحاكم بصيانة الحقوق والحريات الفردية وإلا فللناس حق الثورة عليه. وعند روسو، أيضا، فإن الإرادة العامة للشعب هي فوق أي إرادة فردية". أما كانط فقد ركز على مكانة الدستور المدني الذي يتأسس على ثلاثة مبادئ: “حرية أعضاء المجتمع، ومبدأ خضوعهم جميعا لقانون وحيد مشترك، ومبدأ المساواة بين الجميع، وعلى قاعدة الفصل بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.”

إذاً، من دون استعادة النظام الجمهوري، ومن دون تكريس قيمه وأسسه السياسية والأخلاقية والقانونية، لا يمكن التأسيس لدستور جديد يكفل إعادة خلق السوريين بوصفهم شعبا، وخلق الدولة، بوصفها دولة مؤسسات وقانون، بمعنى الكلمة.

ثانيا، زرع فكرة المواطن ومكانته، ذلك أن أي عملية انتقال سياسي في سوريا يفترض أن تتأسس على إقامة دولة مواطنين أحرار ومتساوين، بخاصة أن الإدراكات السياسية السائدة، عند النظام كما عند أغلب المعارضة، ما زالت تفتقد إلى مفهوم المواطنة، أو لتحديد المكانة الحقوقية والقانونية للمواطن في الدستور، علما أنه لا يمكن الحديث عن نظام ديمقراطي من دون ذلك، وبافتراض أن ذلك وحده هو ما يجعل من السوريين شعباً، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الأولية والإثنية والطائفية، وما يجعلهم يدركون ذواتهم الفردية بوصفها جزءا من مجتمع، أو جزءا من شعب، مع حقوق وواجبات، ذلك أن الأقانيم الثلاثة لتمكين المواطن، هي الحرية والمساواة والاستقلالية (أي حصانة الحيز المستقل للفرد). هنا يجب التمييز بين التعريف بالفرد مواطنا، بالمعنيين السياسي والقانوني، وتعريفه منتميا إلى جماعة قبل وطنية، أي بدلالة انتمائه القبلي أو الطائفي أو الإثني، على ما هو حال لبنان تاريخيا في نظام الديمقراطية الطائفية الذي يرهن مواطنيه بطوائفهم، والعراق الذي بات على هذا النحو أيضا، والاثنان يشتغلان وفق مبدأ يسمى بـ “الديمقراطية التوافقية"، وهي ديمقراطية مزيفة، ولا تختلف كثيرا عن ديمقراطية الانتخابات، أو الاستفتاءات.

ثالثاً، بين الفدرالية والمركزية، إذ ثمة فكرة ظلّت محمّلة بالالتباسات وهي تتعلق بالحديث عن سوريا بوصفها دولة لا مركزية، أو تتعلق بشجب فكرة الفدرالية، على ما درج في خطابات المعارضة السائدة. وفي الحقيقة فلا شيء اسمه دولة لا مركزية، بل إن اللامركزية تتضمن المركزية أساساً، والقائلين فيها يوحون بالخشية على سوريا من "التقسيم". وفي الحقيقة فإن ما يمنع التقسيم ليس نصاً معيّناً، سواء كان يتضمن اللامركزية أم المركزية، لأن ثمة دول كبرى قسّمت من دون أن تكون فدرالية، وثمة دول ذات نظام فدرالي، هي من أقوى دول العالم وأغناها وأكبرها، من دون أن تخشى من شبح التقسيم. والفكرة هنا، أولا، أن التقسيم يحصل أساساً وقبلاً في الشعب، لا في الجغرافيا. ثانيا، إن شعور فئة من شعب معين بأنها مغبونة وأنها غريبة في دولتها هو الذي يفتح على خطر التقسيم. ثالثا، إن درء التقسيم يتطلب المساواة بين المواطنين، والمساواة في توزيع الموارد، في نظام يتأسس على الحرية والمواطنة المتساوية والديمقراطية.

على ذلك فإن النظام الفدرالي ليس هو مصدر التقسيم أو الذي يفتح الأبواب على التقسيم، وإنما نظام الاستبداد، واستلاب الحقوق، مع معرفتنا أن الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا والصين وروسيا ودولا كثيرة تأخذ بالنظام الفدرالي. ثم إن النظام الفدرالي هو الذي يحول دون إعادة إنتاج الاستبداد، في حين إن النظام المركزي يسهل ذلك، والنظام الفدرالي يتيح توزيعا عادلا للموارد، بعكس النظام المركزي الذي يجعل العاصمة تستأثر بالموارد. وأخيراً، لعل ما يجب التركيز عليه أن الدولة الفدرالية لا تتأسس وفقاً لمعايير إثنية أو طائفية، وإنما وفقا لمعايير جغرافية، وهذا ما يفترض الانتباه إليه، للتخفّف من الخشية من فكرة الفدرالية، ولوضع حد للمداورة عليها بفكرة اللامركزية التي لا تعني شيئا، أيضا يمكن أن يشكل هذا رداً على طروحات "الفدرالية" الإثنية التي تلوح بها بعض القوى الكردية.

رابعا، بين النظام الرئاسي والنظام البرلماني، إذ من البدهي أن إقامة نظام سياسي برلماني، هو المدخل الملائم للقطع مع النظام الرئاسي الذي قد يعيد إنتاج نظام الاستبداد، أو حكم الدكتاتور، وربما يمكن أخذ التجربة الفرنسية هنا، حيث ثمة نظام مزدوج رئاسي وبرلماني، مع توزيع الصلاحيات بين الجهتين. وأهمية ذلك الطرح أنه يساهم في إخراج الأمر من دوامة الصراع السياسي والتفاوضي على منزلة الرئيس، على نحو ما شهدنا في تجربة المفاوضات، وذلك في النص في أي دستور جديد على نظام برلماني، أو نظام مزدوج، لتجاوز هذه العقبة نهائياً.

خامساً، بصدد المسألة القومية الكردية، لا يمكن طرح أي دستور جديد في سوريا، أو خلق إجماعات وطنية سورية، من دون معالجة المسألة القومية، لا سيما للجماعة القومية الثانية في البلد، أي الكرد، والفكرة هنا أن الحديث عن حقوق المواطنة وحده لا يكفي، بمعنى أنه مع النص على حقوق المواطنة الفردية، يفترض أيضا النص على الحقوق الجمعية للكرد، بوصفهم جماعة قومية، تنتمي إلى جماعة قومية أكبر في بلاد أخرى، تماما مثلما بالنسبة إلى العرب السوريين، وذلك في اللغة والتعليم والثقافة والأعياد والرموز.

سادساً، نظام ديمقراطي، حتى الآن فإن هذا النظام الذي يتأسس على تداول السلطة، والاحتكام إلى الدستور، والفصل بين السلطات، وحل الخلافات وتعيين التوازنات السياسية بوساطة الانتخابات هو الأفضل بالنسبة إلى النظم السياسية في العالم، على الرغم من كل الثغرات فيه والمآخذ عليه، لكن ذلك النموذج هو الأفضل والأرقى لإدارة أي بلد، لكن ذلك النظام يفترض أن يكون محتكما إلى فكرتي المواطنة والحرية، إذ ديمقراطية الانتخابات والديمقراطية التوافقية ليستا من الديمقراطية في شيء، فالديمقراطية من دون ليبرالية، كما الليبرالية من دون ديمقراطية، لا تفيدان في شيء. وما يفترض إدراكه هنا أنه في الديمقراطية الليبرالية لا توجد أقليات وأكثريات طائفية أو إثنية، وإنما توجد أقليات نسبة إلى المصالح السياسية والاقتصادية، بمعنى أنه لا توجد انقسامات عمودية، وإنما انقسامات أفقية على المصالح والرؤى.

تلك هي القضايا الأكثر حساسية والأكثر أهمية التي يفترض تضمينها في الدستور السوري المقبل، بيد أن ذلك يفترض التأكيد أيضا بأن أي دستور لا يمكن أن ينجز من دون استعادة الاستقرار، والتحرر من حقبة الاستبداد، ومن دون مداخلات دولية مؤثرة وحاسمة.

*بروكار برس (brocarpress.com)، تفتح باب المناقشة حول موضوع الدستور، واللجنة الدستورية، وهذه مساهمة في ذلك الموضوع.
المصدر: بروكار برس