الدولة الحارسة قد تكون الجواب عن انسداد طريق الدولة - الأمة

الدولة الحارسة قد تكون الجواب عن انسداد طريق الدولة - الأمة

Aug 05 2018



تعلق بعض اليهود «المتحررين» (الذين هم من أصول يهودية ولكنهم لا يعتنقون الدين اليهودي) من أمثال ريمون آرون وحنة أرندت، بالدولة العبرية لم يتبلور تعليله النظري. فآرون، الفرنسي، كتب في 1967: «هذه الدولة الصغيرة ليست دولتي»، وأردف أن زوالها، على رغم ذلك، قد يفقده حتى الرغبة في دوام العيش. ما الذي دعا الرجل إلى الجمع بين البراءة من الدولة وبين التمسك بوجودها ودوامها؟ قد يكون الجواب في التحري، أو التقصي عن الهشاشة السياسية، هذه الهشاشة لم يؤدِّ استئناف الجمهورية والدول– الأمم في أوروبا بعد الحرب إلى تسكينها وطمأنتها، فالحوادث بين تصدر عداء السامية في القرن التاسع عشر وبين المحرقة، وبينهما حكومة فيشي العنصرية في فرنسا، أضعفت ثقة اليهود الأوروبيين بالدولة ومثالها. وتضطلع الدولة العبرية، في هذا المعرض، بدور «إعادة تأمين» (أو تأمين على التأمين) وظيفة الحراسة.


وهذا النهج لا يقتصر على التاريخ المعاصر، فاليهود في المنفى سعوا على الدوام إلى الحصول على حماية السلطات السياسية لقاء ولائهم لها. ويتيح سفر إستير (من كتب التوراة اليهودية) والشروح الربينية عليه طوال العصور، فهم بنية هذه المقايضة. والسِّفر هو بمثابة كتاب في السياسة احتاج اليهود في المنفى إليه، ونصبوه دليلاً يضيء لهم الطريق. وموضوع العلم السياسي ينهض على التوفيق بين التمسك المطلق بشريعة الخالق، ملك بني إسرائيل وملك الملوك، وبين الولاء للملك الإقليمي أو الأرضي، والتحكيم في الولاء المزدوج. فمنذ أن لوح إرميا النبي بالمنفى قال: السلطان مِلك يد مَلك بابل فصلوا وادعوا له بطول العهد والسلام وهو يحميكم. ودور إستير الجواب عن مسألة حاسمة: ما الحال إذا نكص الملك عن دور الحماية؟ وإذا أشار عليه ناصح سوء بالتخلص من اليهود بذريعة أنهم ليسوا رعية مطيعة؟ ماذا يسعنا أن نفعل؟

ولا شك في أن الرسم الملكي أو الامبراطوري، وهو المثال الذي سوغ صنيع إستير، انقضى. ولما حل وقت التحرر الديموقراطي في القرن التاسع عشر، تغيرت عناصر المقايضة بين اليهود وبين السلطة السياسية. وإلى ذلك الحين، كان اليهود يلتمسون حماية السلطان الأعظم من السلطان الوسيط- العنف الشعبي أو عنف الاكليروس الصغير، فافتقروا إلى حلف صاحب السلطة لأن الشعب صار صاحب السلطة. واندمج اليهود في الشعب وبلغوا السلطة مع من بلغها من الشعب. وعروا (جردوا) من ملجأ في الأحوال الداهمة، فملاذهم التقليدي لم يعد قائماً. وحين شفعت إستر لهم لدى الملك أحشويروش رفعت عنهم خطر الاستئصال. فما العمل حين يكون الملك وناصح السوء واحداً؟ وحين تتولى الدولة دور المجرم؟ هذا هو السؤال الذي سأله الكاتب الألماني أرنولد زفايغ (1887-1968) في أثناء الحقبة النازية: «من أين تقوم إستير؟».

وأنا أزعم أن القرن العشرين شهد تحول المثال التقليدي من غير أن يلغيه أو يمحوه، فمفهوم «الدولة – الحارس» لم ينفك -على ما أردت التنبيه- يتجدد. وينظر عموماً إلى الصهيونية السياسية على أنها نتاج ديناميتين: الأولى هي حركة القوميات في أوروبا، وعلى هذا انتهج اليهود نهج تقرير المصير التقليدي وأنشأوا دولة– أمة. وتحمل الدينامية الأخرى على نازع خلاصي (مسيحاني) لم ينفك اليهود في المنفى يحلمون بعودتهم إلى أرضهم ولكن التراث والتقليد حالا دون عودتهم وأمراهم بانتظار مجيء المسيح وشرطا عودتهم به. وينسب إلى الصهيونية السياسية الاضطلاع برفع الحرم السياسي عن أنصارها ودعوتهم أخيراً الى تنحية الحواجز من طريق العودة.

وما خلصتُ إليه يخالف التأويلين، فصهيونية هرتزل السياسية هي ثمرة السعي في الحراسة أو الحماية، فهي على هذا وارثة تراث الحارس، ولما جاز أن تتخلى الدولة- الأمة الديموقراطية، في الأحوال السياسية الحديثة، عن ضمانة الحراسة، أرادت الحركة الصهيونية استبدال ضمانتها بضمانة أخرى. فهي لم تسعَ منذ خطواتها الأولى في إنشاء دولة- أمة بل سعت في إنشاء دولة- حارسة من طريق دمج مثال الحراسة الخارجية في الدولة. وليس في هذه الحال علاقة خلاصية بالدولة، والمثال هو مثال المواءمة أو التكيف، على ما شُهد في مرحلة المنفى. وتترتب على هذا لامبالاة بالإقليم (الجغرافي). فالحارس كان في طورٍ الإمبراطورَ، وفي طورٍ آخر كان الدولة– الأمة... وهو اليوم الدولة العبرية. وقد لا تكون هذه الدولة غداً، فدور الحراسة هو ما يدوم، وأما شكلها السياسي فيتغير.

وينبغي الانتباه إلى أن دولة إسرائيل أنشئت في وقت تعرضت فكرة الدولة نفسها إلى الطعن وخسرت هالتها، فمثال السيادة والولاية هذا مأزوم، في أوروبا على نحو خاص. وإلى الآن، لم يحل شكل آخر محله. والرأي الذي أدعو إليه- وهو لا يلقى صدى يساراً لأنه ينهض على التراث والتقليد ولا يلقى صدى يميناً لأنه ليس خلاصياً- يزعم أن الدولة الحارسة قد تكون الجواب النقدي عن انسداد طريق الدولة– الأمة، في النزاع الجغرافي السياسي القائم على الخصوص (مع الفلسطينيين). فهي تتيح الخروج من تقديس الأرض والتفكير في الدولة بما هي غلاف الشعب الخارجي، وذلك في ضوء تراث وتقليد سابقين لا تنكر مشروعيتهما، ورعيا نهجاً فعلياً. وتتيح، من ناحية أخرى، توسيع هوامش مفاوضة جديدة والسعي في حل النزاع الإسرائيلي– الفلسطيني، فيؤدي التراث والتقليد دور مورد سياسي، ولا يقصران على استعمال يضيّق أفق الممكنات ويزمه.

* باحث في المركز الوطني للبحوث العلمية، عن «لوموند دي ليفر» الفرنسية، 6/7/2018، إعداد منال نحاس(الحياة).