التمرذل في غرامة

التمرذل في غرامة "القبلة" السورية

Sep 21 2019

سوسن جميل حسن*
كتبت في "العربي الجديد" (3/9/2016) مقالة تحت عنوان "فيروس "التمرذل" والحرب السورية". وما زال برنامج الوورد يضع لي خطًا أحمر تحت الكلمة، "التمرذل"، على الرغم من شيوعها وممارستها كأكثر طريقة تخدم أجندات التضليل التي يمارسها الجميع بحق الشعب السوري.
تعني الكلمة الإنكليزية Trolling، بحسب القواميس، كما شرح مبتدعها حينها: الصيد عن طريق تتبع خيط ينتهي بطُعم خلف قارب صيد. والكلمة المقترحة للغة العربية بمدلولها اللغوي تدل على نشاط يندرج تحت مفهوم الفعل الخسيس أخلاقيًا، لأنه قبل كل شيء مبنيٌّ على الكذب، لناحية هوية الأشخاص الموكل إليهم هذا الدور، والكذب بالمعلومات أحيانًا أو فبركتها لتؤدي دورها المضلل.
المهم أن فعل "التمرذل" شغّال بشكل دائم في مجتمعنا، واقعيًا وافتراضيًا على صفحات التواصل الاجتماعي، من جديدها صورة المخالفة المزعومة لفعل "مسيء اجتماعيًا" في إحدى حدائق دمشق، وهو القُبلة، بعد أن نشر أحد المتمرذلين على صفحته صورة مفبركة تظهر إيصال غرامة مدفوعة لقاء مخالفةٍ مرتكبة في حديقة عامة، وهي "القبلة" وغرامتها خمسمائة ليرة، وعدد القبل كان خمسًا، فكانت المحصلة ألفين وخمسمائة ليرة، واسم منظم المخالفة بوّاس الحافي. وواضح أن الحركة مفبركة، ولا أساس لها من الصحة، لكن الحراك حامي الوطيس الذي حرّضته في صفحات التواصل دفع وزارة الأوقاف السورية إلى تكذيب الخبر بإصدارها بيانًا تؤكد فيه أن لا علاقة لها به، وأن الجهة التي فبركته من "الخونة الذين يعيشون في الخارج".
هناك توتر دائم وتوجس من أمر أسلمة المجتمع في حال أسلمة الدولة، من شريحة واسعة من
"توتر دائم وتوجس من أمر أسلمة المجتمع في حال أسلمة الدولة، من شريحة واسعة من السوريين"السوريين. واللافت أن الاحتجاجات دائمًا تنهمر كالوابل على صفحات التواصل الاجتماعي الذي صار بديلاً للاحتجاجات الميدانية، بعدما صار ما صار في سورية. والتوجس سابق للحراك الشعبي السوري الذي تحوّل إلى حرب ساهم حجم العنف فيها ودخول أطراف إسلامية متطرّفة إلى ساحة القتال بالإضافة إلى الشحن الطائفي والمذهبي والخطاب الإقصائي المزدهر في جنوح قسم كبير من شرائح المجتمع نحو التديّن المتشدد، كانت إرهاصات التوجس في العام 2006 عندما أثير قانون الأحوال الشخصية. ثم هبّت قبل عامين زوبعة المناهج التعليمية في المدارس، وكان من الواضح فيها محاباة الإسلاميين، إن لجهة المنهاج التعليمي أم لجهة أغلفة بعض الكتب، تلا ذلك مرسوم التعاون بين وزارة الأوقاف وجامعة البعث.
ولقد أحدث المرسوم رقم 16 المتعلق بوزارة الأوقاف، والذي ينصّ في إحدى مواده على إنشاء 1355 وحدة دينية في المدن والبلدات والمناطق السورية، يديرُ كلَّ وحدة منها مُفتٍ خاص بها، يمنح وزارةَ الأوقاف صلاحياتٍ واسعة لجهة الإفتاء، ومختلف أوجه النشاط الديني، جدالاً مجتمعياً واسعاً، فهو يمنح وزارة الأوقاف الحق في تنظيم المجتمع على أساس ديني، ويزيد من وطأة الرقابة عليه، كذلك فريق الشباب الديني وغيره إجراءاتٍ عديدة تنص عليها مواد المرسوم، من دون أن ننسى تنظيم القبيسيات الذي بدا مثلما لو كان بديلاً عن الاتحاد العام النسائي الذي تم حلّه، وكل هذه القوانين والإجراءات تكرس ارتباط الدولة بالدين على عكس التصريح بعلمانية الدولة وانفصالها عن الدين.
وكانت وزارة الأوقاف السورية وراء كل عاصفة احتجاج في الفضاء الأزرق، تسعى إلى إصدار بيانات توضيحية، وتفنيد الأمر المثير للضجة. فيما لا ترغب شرائح كثيرة من الشعب السوري في أسلمة الدولة والمجتمع، وبالتالي تتوجس من أي حركة أو قانون أو إجراء يحمل توجهًا نحو هذا الأمر. إنما لا يمكن إغفال الأمر، والركون إلى أن سورية دولة علمانية، فالدستور في سورية لا يقول بعلمانية الدولة، ويعتمد التشريع الإسلامي أحد مصادر التشريع الرئيسية، كما إن دين رئيس الدولة الإسلام. وفي الواقع، كان المجتمع السوري في بعض المناطق متقدمًا على الدولة في مجال العلمانية. أما اليوم، الوضع مختلف وله حساباته، وبموجبها يمكن اعتبار الزوبعة التي أثارتها صورة إيصال الغرامة المالية المزعومة حول القبلة واحدة من أدوات "التمرذل" التي لم تكفّ عن العمل والتوجّه إلى الرأي العام بطرق مشابهة، وحول قضايا كثيرة، أداة من أدوات التوجيه الذي يدفع الشريحة المستهدفة نحو وعيٍ ما، أو قبول فكرة ما، ما يسهل صياغة وعي عام يدافع عن الفكرة أو الموقف.
حركة كهذه تثير زوبعة في الفضاء الأزرق. ينتقل صداها إلى الواقع، ويتداولها الناس بآلية
"إن دعاة العلمانية والدفاع عنها أنفسهم يساهمون في شيطنة العلمانية في أذهان العامة" الإشاعة التي تتضخم ويصير لها أيد وأرجل كما يقول المثل، لا بد أن يكون وراءها هدف أبعد، ويمكن قراءتها بطريقتين، فهي إما أن يكون وراءها "متمرذِل" يريد رصّ الصفوف، وكسب مؤيدين كثيرين يقفون في وجه المد الإسلامي ومحاباة الدولة رجال الدين، ومنحهم صلاحيات إضافية غير التي كانت دائمًا في حوزتهم، أو متمرذل آخر يريد أن يشعل مفرقعة صغيرة ليسبر ردة فعل العامة تجاهها، ومدة ردة الفعل هذه. وفي الحالتين، تعتمد هذه الطريقة التي تولد صراعًا حاميًا بين فئات المجتمع السوري التحريض والتهييج والتجييش أسلوبًا لها، ولا تقوم على مساعدة المجتمع في التخلص من حبال القروسطية أو الماضوية الملتفة حوله، ولا تتجاوز الخطاب الإقصائي الرافض للآخر، ولا تستطيع بناء جسورٍ يقوم عليها الحوار، كما إن دعاة العلمانية والدفاع عنها أنفسهم يساهمون في شيطنة العلمانية في أذهان العامة. هي حركاتٌ وأساليب تعزّز الأوهام، وتزيد في تضليل الوعي، وتعزّز العصبيات، وتكرس الخلافات، وتبث الفوضى في المجتمع.
عندما يتحرّر العقل وتتحرّر الإرادة ويتعزّز الشعور بالذات، تتحرّر منظومة القيم، وتعيد إنتاج نفسها من رحم الوعي الجديد. وقبل كل شيء، صارت بعض المفاهيم بحاجة إلى تنقية مما علق بها خلال عقود من الازدواجية بين النظرية والتطبيق، بين القول والفعل، وإعادة ثقة الناس بها والدفاع عن براءتها كمفاهيم مما أنابها من تشويه نتيجة ذلك، فالعلمانية أكثر المفاهيم التي بتطبيقها الصحيح تضمن الحقوق لكل أفراد الشعب، وبناء دولة الديموقراطية والمؤسسات ضرورة لاسترداد عزيمة الشعب، باسترجاعه الإحساس بكرامته. هذه المفاهيم يلزمها تراكم معرفي وتربوي، وليس "تمرذلا" ولعبًا بمشاعر الناس واستخفافًا بعقولهم.
*طبيبة وكاتبة وروائية سورية، صدرت لها أربعة أعمال روائية.
المصدر :العربي الجديد