التسوية السّياسيّة مقابل رفع العقوبات..

التسوية السّياسيّة مقابل رفع العقوبات.. "قيصر" قانون المأساة السّوريّة القادمة

Jun 24 2020

تحوّل قانون (قيصر) إلى قِصّةٍ معيشيّةٍ في الدّاخل السّوريّ، إذ يدرك السّوريّون أنّ أمريكا لا تريد حمايتهم، وأنّ قانون حماية المدنيّين السّوريّين 2019 المعروف بقانون قيصر، يزيد من تعقيدات الأزمة السّوريّة، ويفتح لها فصولاً جديدةً ملؤها التّفقير والتّجويع، وعنوانها الرّئيس صبّ الزّيت على النّار التي كوت بحرقةٍ الشّعب السّوريّ المنقسم سياسيّاً. وبعيداً عن المرامي السّياسيّة للقانون الأشهر في تاريخ العقوبات على سوريا منذ 1979، فإنّ الجانب الاقتصاديّ لهذا القانون الأمريكيّ، لا يدفع (كما يروّج له) إلى تضييق الخناق على النّظام السّوريّ، وحرمانه من إمكانية استيراد أو تصدير المنتجات. وتتمثّل نقطة التّحوّل بقانون قيصر؛ أنه يصيب من الشّعب السّوريّ مقتلاً، وتبرز هنا المأساة السّوريّة بتجرّدٍ تامٍ، تسع سنواتٍ من الحرب الطّاحنة، سيزيدها قيصر تهاوياً اقتصاديّاً. الآن ما الخيارات المتاحة أمام الحكومة السّوريّة لتخفيف أعباء (قيصر)؟

النّظام وقيصر

جنحت حكومة دمشق إلى ممارسة دورٍ يصبّ في مصلحة مرامي قانون (قيصر)، مستبقةً تطبيقه منتصف حزيران الجاري. وأول قرارٍ اقتصاديٍّ لهذه الحكومة، أنّها أوقفت التّسهيلات الائتمانيّة، في خطوةٍ غير منطقيّةٍ، تخالف كلّ القوانين الاقتصاديّة. كما اتّخذت سلسلةً من القرارات المتعلّقة بالتّحويلات الخارجيّة، حرمت من خلالها السّوريّين الذين يعيش أكثر من 80% منهم تحت خطّ الفقر من الحصول على مساعدات ذويهم في الخارج. كما انطلقت دعواتٌ من الخارجيّة السّوريّة لجمع التّبرعات من السّوريّين في الخارج تحت شعار مواجهة مخاطر كورونا. فيما ذهبت المستشارة السّياسيّة والإعلاميّة بثينة شعبان إلى دعوة السّوريّين إلى الصّمود.
هذه الإجراءات تلقي بظلالها على السّوريّين، وتعصف بحيواتهم المريرة، وأجبرتهم على الخروج بمسيراتٍ تندّد بالعقوبات، لكن لم تقترب حكومة النّظام من القطاعات الإنتاجيّة (الزّراعة، الصّناعة) التي يمكن أن تخفّف من عواقب (قيصر)، ولم تعتمد خطّة طوارئ اقتصاديّةٍ تساعد النّاس، تستند إلى ما تبقى من عناصر قوّة لدى الاقتصاد السّوريّ الإنتاجيّ، بل ذهبت إلى أبعد ما يمكن وصفه بدفن الرّأس بالرّمال لمواجهة عاصفة قيصر.

ترميم الثّقة

تصف وزيرة الاقتصاد السّابقة لمياء عاصي قانون قيصر "بالعدائيّ"، وتوضّح أن القانون "يفرض حصاراً على الشّعب السّوريّ" من قبل الولايات المتّحدة الأمريكيّة على كلّ من يقوم بتزويد سوريا بأيّ تقنياتٍ، أو ينخرط بأيّ عمليّةٍ من مرحلة إعادة الإعمار. وفي حديثها ل (صور) ترى المسؤولة السّوريّة السّابقة، التي عملت سفيرةً لبلادها في ماليزيا، أنّه برغم "تأثيرات القانون السّلبيّة" الكثيرة على حياة السّوريّين، قد يشكّل "فرصةً ثمينةً للعودة إلى الاعتماد على الذّات" في كثيرٍ من المنتجات الزّراعيّة والصّناعيّة. وردّاً على سؤال ما النّقاط التي لا بدّ من التّركيز عليها في هذا الصّدد؟ تقترح عاصي بداية "إعادة ترميم الثّقة بين النّاس والحكومة"، بأن يشعر النّاس بأن القرارات والإجراءات الحكوميّة "تُتّخذ وفق منهجيّةٍ مفهومةٍ" بالنّسبة لهم، وتحويل "الشّعارات العائمة والتّصريحات الفضفاضة إلى أهدافٍ قابلةٍ للقياس" ضمن أرقامٍ أو نسبٍ مئويّةٍ دقيقةٍ وإطارٍ زمنيٍّ محدّدٍ، ومقارناتٍ مع أعوام سابقةٍ، أو اتّخاذ سنة أساسٍ، وأن "تَحُلَّ المصارحة مع النّاس بدل الوعود الخُلبيّة". ويشهد الدّاخل السّوريّ فجوةً عميقةً بين حكومة دمشق ومواطنيها، تتعلّق بعدم الرّضا الشّعبيّ على عمل حكومات فترة الحرب 2011 ـ 2020، وعدم المصارحة وغياب الشّفّافيّة رغم تغيير أربع حكوماتٍ خلال هذه الفترة، فضلاً عن التّعديلات الوزاريّة، في سابقةٍ غير معهودةٍ لدى النّظام السّوريّ، إذ شغلت حكومتان العقد الأول من الألفية الحالية منها نحو سبع سنواتٍ لحكومةٍ واحدةٍ 2003 ـ 2011.

ويوجّه الشّارع السّوريّ اتّهاماتٍ بالفساد والتّراخي وعدم العمل كما يلزم بحقّ المسؤولين الكبار ومنهم الوزراء، وعدم اتّخاذ قراراتٍ جدّيّةٍ تسهم في تخفيف الأعباء عن النّاس.

الاعتماد على الذّات
يصوّب السّوريّون على الانفتاح التّجاريّ غير المدروس الذي اتّبعه النّظام خلال فترة ما قبل الحرب السّوريّة، ويُحمّلون هذا الانفتاح جزءاً من مسؤوليّة تردّي الأوضاع الإنتاجيّة والمعيشيّة. وتؤكّد الوزيرة السّابقة عاصي أنه لا بدّ من "تعليق سياسة الانفتاح التّجاريّ وتحقيق مبدأ الاعتماد على الذّات"، في معظم السّلع الأساسيّة. وتشدّد على "اعتماد السّياسات الحمائيّة" لتشجيع وحماية الإنتاج المحليّ، و"فرض رسومٍ جمركيّةٍ عاليةٍ" على البضائع المستوردة، و"منع استيراد" البضائع التي لها بديلٌ محليٌّ.

وتدلّل عاصي على موقفها هذا بقولها: "إنّه في حالة الحرب والعداء الذي تواجهه سوريا من قبل الكثير من الأطراف الدّوليّة؛ لا يمكن اعتماد سياسة الانفتاح التّجاريّ أو المضي بأيّ مشروعٍ للإصلاح الاقتصاديّ". لكن هذا لا يعني إطلاقاً أن تبقى سوريا في حالة من العزلة الاقتصاديّة، وتقترح عاصي "الانضمام إلى اتّفاقيّات تبادلٍ تجاريٍّ مع دولٍ حليفةٍ"، مثل الاتّحاد الأوراسي (روسيا، بيلاروسيا، كازاخستان، أرمينيا، وقرغيزيا) الذي انطلق عام 2010 ولم يُستكمل بعد. كما تولي اهتماماً للتوجّه شرقاً، وتفسّر ذلك بأنّ الصّين وهي الدّولة الأكثر تأثيراً في التّجارة الدّوليّة، " بدأت بالخروج من سيطرة الدّولار" كعملةٍ للتجارة الدّوليّة، وأنشأت قبل سنواتٍ صندوقاً للتبادل التّجاريّ بالعملات المحليّة مع دول آسيا.

أخطاء السّياسة النّقديّة
أول انعكاسات قانون قيصر تحسّسته العملة السّوريّة، وبدأت أسعار اللّيرة بالتّهاوي، وفقدت قيماً جديدةً من سعرها السّوقيّ، إذ وصل سعر صرف اللّيرة إلى ثلاثة آلافٍ مقابل الدّولار الواحد، ما أدّى إلى شبه توقّفٍ للعمل الاقتصاديّ، وبالذّات عمليّات البيع والشّراء، وشهدت معامل الأدوية توقّفاً جزئيّاً، ما أصاب النّاس بالذّعر. فضلاً عن القرارات الحكوميّة المجحفة في تسعير الحوالات الخارجيّة، رغم أنها الملاذ الوحيد لرفد مصرف سوريا المركزيّ بالقطع الأجنبيّ، ولمساندة النّاس الذين يحصلون على هذه الحوالات.

إذ سَعَّر المركزيّ دولار الحوالات الخارجيّة ب 700 ليرةٍ، ومن ثم رفع السّعر إلى 1200 ليرةٍ، إلّا أنّ الفارق بين هذا السّعر وسعر السّوق الموازية البالغ في حدّه الأعلى 3000 ليرةٍ مقابل الدّولار، سيحرم سوريا من أكثر من مليار دولارٍ سنويّاً كتحويلاتٍ (بعض الأوساط المعارضة تقدّر الحوالات الخارجيّة بنحو 1.4 مليار دولارٍ سنويّاً). وتؤكّد عاصي أنّ الشّأن النقديّ، "يعتمد" على الوضع الاقتصاديّ والماليّ للدولة، ولا يمكن التّعامل معه بمعزلٍ عنهما، ولكن هناك "أخطاءٌ كبيرةٌ في السّياسة النّقديّة" لا بدّ من معالجتها. ولعلّ أهمّها ـ برأي عاصي ـ سعر الحوالات الخارجيّة "البعيد جداً" عن السّعر الموازي، إضافةً إلى سعر الفائدة "غير المتناسب مع حالة التّضخّم" في البلد. وتنتقد عاصي "إيقاف القروض والتّسهيلات الائتمانيّة" التي تعتمدها الحكومة، كونها تؤدّي إلى "توقّف المشاريع الإنتاجيّة" وتعمل "بشكلٍ معاكسٍ" لتشجيع الإنتاج المحليّ والاعتماد على الذّات وفقاً للوزيرة السّابقة عاصي.

لا يوجد فائضٌ زراعيٌّ
رغم دورها الكبير في حماية الاقتصاد السّوريّ، ظلّت الزّراعة مهملةً، وخارج اهتمامات النّظام، ولم تنتقل من مجرد مهنةٍ يعمل بها سكّان الرّيف إلى داعمٍ قويٍّ للاقتصاد، وأحد ركائز التّنمية. بل أن نسبة مساهمتها بالنّاتج المحليّ تراجعت، رغم الميّزات التّفضيليّة التي تمتلكها المنتجات الزّراعيّة السّوريّة الخالية من الأثر المتبقي، وساهم الجفاف وسني الحرب في إلحاق ضررٍ كبيرٍ بالقطاع الزّراعيّ، والذي فقد الكثير من عناصر قوّته، لا سيّما فيما يتعلّق بالثّروة الحيوانيّة.

ويقول الخبير الزّراعيّ حسان قطنا: إنّ قطاع الثّروة الحيوانيّة "بحاجةٍ إلى معالجةٍ موضوعيّةٍ"، إذ فُقِّد خلال الحرب "نصف عدد القطيع"، ويتمّ استيراد الأعلاف والحليب المجفّف لإنتاج الألبان، فيما يطالب البعض "السّماح بتصدير" منتجات الألبان رغم ارتفاع أسعارها إلى مستوياتٍ قياسيةٍ، على اعتبار أنّ لدينا فائضاً من هذه المنتجات.

ويؤكّد قطنا ل (صور) أن سوريا "لم يعدّ لديها فائضٌ من المنتجات الزّراعيّة"، وما يظهر في السّوق هو "فائضٌ نظريٌّ"، لأنّه لو كان المواطن السّوريّ يحصل على دخلٍ يكفيه لشراء هذه المنتجات، لما وجدنا فائضاً بأيّ منتجٍ زراعيٍّ، بل سنواجه عجزاً حقيقياً في المتاح من المنتجات الزّراعيّة. ويقترح قطنا ضرورة "دعم برنامج تحقيق الأمن الغذائيّ"، الذي يؤكّد على "إتاحة الغذاء وتعزيز قدرة الوصول إليه"، وأن يحقّق معايير الجودة، معتبراً أن القمح هو "أقوى سلاحٍ" لتحقيق الأمن الغذائيّ.

ويرى قطنا أنّ الإنتاح التّصديريّ مسارٌ تسويقيٌّ آخر، يجب تنظيمه ودعمه وربطه بأسواقٍ مستهدفةٍ، وهو يدعم الاقتصاد الوطنيّ والمواطن، أما مسار "إنتاج البلد للبلد" فهو الإنتاج اللازم لتلبية حاجة السّكّان من الغذاء بأسعارٍ مناسبةٍ، مؤكّداً أن "مايجري حالياً خلاف ذلك"، وأن ما يُصَّدر هو "جزءٌ من الإنتاج اللازم لتحقيق الاكتفاء الذّاتي والأمن الغذائيّ" وهو يؤدّي إلى "ارتفاع أسعار المنتج". ويشير إلى أنه لو كان لدينا إنتاجٌ متخصّصٌ للتصدير لأصبح التّصدير "أحد أوجه تخفيض أسعار" المنتج المحليّ المتاح للمستهلك ووسيلةً إيجابيّةً لدعم الفلاّح والمواطن.

لا توجد خطّة مواجهةٍ

يسترجع قطنا الحصار على سوريا في ثمانينيات القرن الماضي، والذي كان من أهمّ الإجراءات المتّخذة لمواجهته "الاحتفاظ بمخزونٍ استراتيجيٍّ" من القمح والشّعير والقطن والزّيوت النّباتيّة. ويؤكّد أن سوريا تتعرّض حالياً "لحصارٍ ظالمٍ جديدٍ"، ما يتطلّب "إعادة إحياء برنامج المخزون الاستراتيجيّ" من الحبوب. ورغم أنّ التّصدير مصدرٌ مهمٌّ للقطع الأجنبيّ، يوضّح قطنا أنه ليس صحيحاً في ظلّ الحصار أن "نصدّر منتجات القمح" المصنّعة كالفريكة والبرغل وغيره ونحن نستورد القمح، وأن نزرع البطيخ والخضار بدلاً من زراعة المحاصيل التي نستوردها كالذّرة وفول الصويا، وليس صحيحاً "إيقاف منح" القروض للمشاريع الزّراعيّة تحت عنوان "تجفيف السّيولة لدعم اللّيرة"، فشراء القمح من الفلاّحين سيؤدّي إلى طرح ٤٠٠ مليار ليرةٍ سوريّةٍ في السّوق. ويرى ضرورةً ملحةً "لإعادة ترتيب هذه المتناقضات" في ظلّ الحصار.

ويبدي الخبير الزّراعيّ دهشته من عدم الاستعداد للعقوبات، إذ منذ أشهرٍ نعلم علم اليقين "تصاعد القيود والعقوبات الظّالمة" على سوريا، لافتاً إلى أن البلاد تستورد سنويّاً ما لا يقلّ عن 1.5 مليون طُنٍّ من الذّرة اللازمة لتربية الدّواجن، كما أنّه لدينا ما لا يقلّ عن ١٥٠ ألف هكتارٍ مساحاتٍ مرويةٍ شاغرةٍ كانت تُزرع بمحصولي القطن والشّمندر السّكريّ ولا تزرع حالياً بهذه المحاصيل، إذ كان "يجب التّخطيط لزراعتها" لإنتاج أكثر من ٤٠٠ ألف طُنٍّ من الذّرة بعروتها العادية التي لا تحتاج إلى استخدام المجففات.

ويؤكّد قطنا أنه لو "تمّ التّفكير" بذلك في وقته، وقامت المؤسّسات المعنيّة بتوفير البذار استيراداً، وتسليمه للفلاّحين بدعم 50 بالمئة، عندها نقول: إنّنا "نضع خطّةً لمواجهة الحصار وقانون قيصر والاعتماد على الذّات والإحلال محلّ المستوردات". ويحذّر قطنا أنه في حال لم تفضي الاجتماعات إلى حلولٍ لدعم الزّراعة، سنكون أمام "انهياراتٍ أخرى مماثلةٍ لانهيار قطاع الدّواجن".

ويرى أن سعر كيلو القمح بعد رفعه مؤخراً أصبح قريباً من السّعر العالميّ، ومتكافئاً مع التّكلفة ويحقّق هامش ربحٍ مجزٍ، لافتاً إلى ضرورة "تمكين" مؤسّسة الحبوب من شراء أكبر كميةٍ ممكنةٍ من الإنتاج المحليّ، متوقّعاً أن تصل الكميات المسوّقة إلى مليوني طُنٍّ، وهو ما يغطي حاجة الاستهلاك المحليّ من الطّحين، والتّوقّف عن استيراد القمح.

نفقٌ جديدٌ

يُدخِّل (قيصر) الشّعب السّوريّ بنفقٍ مظلمٍ جديدٍ، ويقطع عنه بعض الموارد التي تمنع موته جوعاً، هذه المنهجيّة العقابيّة، غير قادرةٍ على إسقاط النّظام، وتاريخ العقوبات الأمريكيّة على الدّول يثبت ذلك، إذ نالت من الشّعوب وأبقت الأنظمة، والتي وجدت بالعقوبات فرصةً جديدةً للاستمرار.
المصدر: مجلة صور